عرض المقالة

رسالة في تفسير خواتيم سورة البقرة

صفية الشقيفي
هيئة الإدارة

0
15356
0
0
0
1

غير مصنف

غير مراجَع


رسالة في تفسير قول الله تعالى:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. سورة البقرة.

القلب؛ تلك المضغة التي تتقلب صباح مساء إلا أن يثبتها الله على الحق بفضله.
مضغة بحجم قبضة اليد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن صلاح الجسد كله بصلاحها وفساده بفسادها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" . رواه البخاري ومسلم.

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم دومًا :" يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"
وروي هذا الخبر عن عائشة وأم سلمة وأنس بن مالك والنواس بن سمعان رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من هذا الدعاء.
وأكتفي بنقل رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " ‌يا ‌مقلب ‌القلوب، ثبت قلبي على دينك ". قال: فقلنا يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: فقال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها ". اهـ، فالله المستعان.

وإن المرء ليعجب جدًا حين يتأمل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ويجد عظيم الاهتمام بصلاح القلب، ثم يتأمل أحوالنا فيجد غفلتنا الشديدة عن مراقبة أعمالنا وانشغالنا بإصلاح الظاهر دون الباطن!
وقد جاءت خواتيم سورة البقرة بعد بيان كثير من الأحكام، لتبين لنا حقيقة عمل القلب وأنه الأساس في كل ما مضى من عمل.
قال الزجاج في معاني القرآن: "ولما ذكر اللّه - جلّ وعزّ - فرض الصلاة والزكاة والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وأقاصيص الأنبياء والدّين والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك". اهـ
وكانت البداية بتقرير حقيقة يعلمها الجميع وإن تخلف أثرها، حقيقة أنَّ: {للهِ ما في السماوات وما في الأرض}، فلك أن تتصور أنك شيء في أرض الله الواسعة وسماواته السبعة الفسيحة، وما بين السماوات والأرض، كل ذلك ملك لله، هو خالقها وهو العليم بها وبما فيها، وأنت جزء من هذا الكون الفسيح ، ألا يعلم ما بقلبك وما يجول بخاطرك ؟
قال اله تعالى: { ألا يعلمُ من خلق وهو اللطيف الخبير}[سورة الملك : 14 ]
فسواء عنده أن تظهر ما في قلبك أو تخفيه، فهو يعلمه، كما قال الله تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كل شيء قدير} [سورة آل عمران : 29]
غير أنّ آيات سورة البقرة لم تتوقف عند معنى العلم - وإن كان وحده كافيًا لمن استحضر خشية الله وعظمته، أن يزجره عن أن ينغلق قلبه على ما لا يرضي الله - ولكن قال الله - عز وجل - في خواتيم سورة البقرة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}
وهذا المعنى الذي أفزعني وأفزعك، أفزع الصحابة حين تصوروا أن الله يحاسبهم على كل ما جال بخاطرهم، فكان ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير }
قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرّكب ؛ فقالوا : " أي رسول الله ! كُلفنا من الأعمال ما نُطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقها"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : { سمعنا وعصينا .. } ، بل قولوا : {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}"، فقالوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، فلما اقترأها القومُ ذلّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله في إثرها : {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل : { لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ..} قال : نعم ، { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم ،{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ، قال : نعم ، { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال : نعم ). اهـ
وهذا الحديث ظاهره التعارض -وحقيقته غير ذلك- مع ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه : " إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به " ، قال : " وقد وجدتموه "! ،قالوا : " نعم " ، قال : " ذاك صريح الإيمان ". رواه الإمام أحمد ومسلم واللفظ له.
قال ابن كثير : " وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان "
قال ابن تيمية : " وأما إن كان وسواسًا والعبدُ يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرح به في الصحيح ، وهذه الوسوسة هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان ".
وهذا مما يسري عن القلب؛ فأن يهجم عليه وسواس شك في حكمة الله وعدله، ثم يدفعه وينفيه، ورسوله صلى الله عليه وسلم يطمئنه أنه غير مؤاخذ بذلك ، بل كراهيته ودفعه من صريح الإيمان ، لا شك أنه يسري عن قلب المؤمن ويثبته.
لكن لما نزلت الآية توهم الصحابة أنهم مؤاخذون بذلك ، ومحاسبون عليه وأنهم لا يطيقونه فقالوا ما قالوا !
وهنا جاء رد رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمهم وقدوتهم :" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : {سمعنا وعصينا ..} ، بل قولوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } .. "
إنها تربية على عبادة عظيمة من عبادات القلب ألا وهي التسليم لأمر الله والإيمان بحكمته وعدله، وإقرار لمنهج تخلف عنه كل الأمم السابقة فتخلفوا في السبق، وجاء به الصحابة رضوان الله عليهم فاستحقوا السبق وهو منهج : "سمعنا وأطعنا" .
هذا المنهج القويم -الذي ما تخلفنا اليوم إلا بسبب تخلفنا عنه-، منهج قائم على إيمان راسخ بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
لذا لما أقرت قلوب القوم بالسمع والطاعة وذلت جارحة اللسان تابعة لأمر القلب بقول السمع والطاعة أنزل الله آيتين جعلهما خاتمة سورة عظيمة - سورة البقرة -، وفي هذا تنبيه على فضلها وفضل ما نزلت به؛ ففيهما ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وفيهما بيان لعظيم قدر الإيمان والاستسلام للمولى، وفيهما بيان لحقيقة أمر التكليف الذي توهم منه الصحابة ما ليس فيه.

قال الله تعالى : {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون ..}
قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه للأربعين النووية : " والإيمان في اللغة هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للشرع ".
فهم حين أقروا بأن هذه الآيات نزلت من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أقروا بها إقرارًا يستلزم إذعانهم لما تضمنته من حكم فقالوا سمِعنا وأطعنا !
وقوله: {بما أُنزل إليه من ربه}
{ما} تدل على العموم؛ وهذا يعني إيمانهم بجميع ما أنزل الله عز وجل على رسوله.
والتعبير بصفة الربوبية في قوله: {من ربه} فيه دلالة على الإيمان بحكمة الله عز وجل فهو الرب المدبر لشؤون العباد العليم بأحوالهم، وما يُصلحهم ، فما ظلمهم فيما شرع لهم ولكن ظلموا أنفسهم حين خالفوا أمره وفعلوا ما نهى عنه وزجر.
وقوله عز وجل: {كلٌ آمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}
{كلٌ} أي الرسول والمؤمنون، جميعهم تحقق فيهم صفة الإيمان.
{كلٌ آمن} الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، والخبر فيها فعل ماض دال على تحقق الإيمان.
ثم فصّل ما آمنوا به، فقال: {بالله}
والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده ووحدانيته في أفعاله وصفاته واستحقاقه وحده للعبادة.
وهذا الإيمان يستلزم التسليم لأمره وإن خفيت علينا الحكمة منه؛ فمن آمن بحكمة الله عز وجل وإحاطة علمه بكل شيء بما في ذلك أنفسنا، وآمن بعدله وأنه سبحانه لا يظلم عباده ولا يكلفهم ما لا يطيقون؛ استسلم لأمره وصبر لحكمه.
{وملائكته}
والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بوجودهم وبمن علمنا من أسمائهم وأفعالهم؛ فمنهم الملائكة الموكلون بالوحي والملائكة الموكلون بكتابة أفعال العباد، وملائكة العذاب، وغيرهم.
والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بما أخبرنا الله عز وجل من صفاتهم، كما قال سبحانه: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [سورة التحريم: 6]
وقال: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [سورة الأنبياء: 19-20]
لا يستحسرون: أي لا ينقطعون عن العبادة بسبب ملل أوتعب أو فتور.
ثم مع هذه الصفة العظيمة لعبادتهم، فهم يستغفرون للذين آمنوا كما قال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [سورة غافر: 7]
وقال تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم} [سورة الشورى: 5]
وهذا الإيمان بالملائكة يورث في قلب العبد تعظيم الله عز وجل.

{وكتبه}
والإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل على رسله يتضمن الإيمان بها إجمالا، بالإيمان بما علمنا من أسمائها وأنها نزلت حقًا من عند الله، والإيمان كذلك بأن القرآن جاء مهيمنا على هذه الكتب، والإيمان بما جاء في القرآن بأن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، وتصديق ما فيه من الأخبار، والعمل بما فيه من أحكام.


{ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}
ونؤمن كذلك بأن الله عز وجل أرسل الرسل إلى عباده يأمرونهم بعبادته وحده لا شريك ، دينهم واحد، وإن اختلفت شرائعهم، ولا نفرق بين أحد منهم.

{وقالوا سمعنا وأطعنا}
آمن الصحابة بما أنزل الله مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولم يُفرقوا بين رسل الله ، بل آمنوا بموسى وعيسى ومحمد وجميع أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم جميعًا وسلم تسليمًا كثيرًا، وكما أنهم لم يفرقوا بين رسل الله - كما فعل أهل الكتاب من قبل فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض -، كذلك فقد آمنوا بجميع ما أنزل الله ولم يُفرقوا بين آية وآية ، ولم يكن مقياس الاتباع عندهم ما يوافق أهواءهم وإنما قالوا لكل أمر الله: "سمعنا وأطعنا"
قال الزجاج: " وقوله عز وجل: {وقالوا سمعنا وأطعنا} أي : سمعنا سمع قابلين و{أطعنا} : قبلنا ما سمعنا لأن من سمع فلم يعمل قيل له أصم - كما قال جل وعز: {صم بكم عمي} ليس لأنهم لا يسمعون ولكنهم صاروا في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع "اهـ.
قال ابن عطية في المحرر الوجيز: "وقوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا} مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر" اهـ.
ومع إذعانهم واستسلامهم لأمر الله عز وجل، أقروا بضعفهم وحاجتهم لمغفرة الله عز وجل، وتذكروا أن المرجع إليه وحده وأنه يحاسب عباده؛ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؛
فقالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير}

وهنا جاء تفريج الكرب من الله -عز وجل- بنسخ ما تأوله الصحابة في فهم الآية وبيان حقيقة تكليف الله - عز وجل -، وبيان حقيقة عمل القلب بين الإفراط والتفريط.
فقال: {لا يُكلفُ الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
فإذا أفرط المرء فتوهم أن الله يُحاسبنا على كل خاطرةٍ تمر بالقلب وإن عارضها القلب ودافعها إرضاء للمولى، قيل له : إن هذا الأمر مما ليس في وسع النفس البشرية فعله، والله رحيم بعباده وقد توهم الصحابة ما توهمت فرد الله عليهم بقوله :{لا يُكلف الله نفسًا إلا وُسعها}
وإذا توهم بأن الله لا يحاسب على عمل القلب ما لم تقره الجوارح، قيل له :{لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها}
وهذا مما في وسع المرء فعله؛ فبوسعه كراهية الكفر والمعاصي وحب الإيمان، وبوسعه الإقرار والإذعان لأمر الله بقلبه كما بجوارحه وليس لأحد من الخلق سلطانٌ على قلبه ؛ فإن أُكره بالسلاح على قول كلمة الكفر، فزلّ بها اللسان، فليس للقلب أن يفعل، بل قلبه مطمئن بالإيمان !
وبوسعه ترك الكبر والعجب والحسد وغيرها من أمراض القلوب.
وبوسعه أن يؤمن بحكمة الله فيما أمر ، وإن عجز عقله القاصر عن فهم هذه الحكمة ، وبوسعه أن يؤمن بعدل الله بين عباده وأنه لا يظلمهم شيئًا ، وبوسعه أن يرضى بالله ربًا يُدبر أمره ويرزقه وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولا جاء بالوحي المنزل من ربه بواسطة جبريل عليه السلام ؛ فما آتانا الرسول أخذناه وما نهانا عنه انتهينا عنه ، وأن يرضى بالإسلام دينًا يرفعُ به رأسه ولا يخجل من أمره ونهيه حتى وإن خالفت في ذلك كل الأمم - التي يبدو أنها متقدمة - في عصرنا وتخلف المسلمون بين الأمم؛ وما تخلفهم إلا بتخلفهم عن منهج " سمعنا وأطعنا " ، وتحرجهم من الاعتزاز بدينهم بين الخلائق!
كل هذا في وسع المرء أن يفعله، فقوله عز وجل: {لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها} فيها من التيسير الكثير، لكن فيها أيضًا من التكليف؛ فهي تعني أنه يُكلف النفس البشرية وُسعها، فهل أتيت بوسعك ؟!
لذا قال عز وجل بعدها : {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
قال ابن عطية في المحرر الوجيز: " وجاءت العبارة في الحسنات بـ " لها " من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر به، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ " عليها " من حيث هي أوزار وأثقال ومحتملات صعبة وهذا كما تقول : لي مال ، وعليّ ديْنٌ "

وإذا عدنا إلى قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}
نجد أن التعبير بقوله {ما في أنفسكم} يدل على استقراره في النفس، وليس مجرد خاطر عابر.
قال ابن عطية: ( وقوله: {في أنفسكم} تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز).

وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم مزيد بيان لهذا المعنى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به). رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وفي رواية عند البخاري: (ما وسوست به صدورها).
وعن أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا هم عبدي بسيّئةٍ فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيّئةً، وإذا همّ بحسنةٍ فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
ولابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} كلام نفيس أنقله للفائدة:
"وللعلماء في معنى هذه الآية والجمع بينها وبين قوله ﷺ «من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وقوله: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثتها به أنفسها» وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما لصحيح مسلم، وهو - مع زيادة بيان -:
أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزم؛ فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال، مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنه مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال؛ كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارا لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث «من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان" اهـ.


ثم أذن الله لنا بالدعاء وعلّمنا منه ما يرفع عنا الحرج ووعدنا بالإجابة، قال تعالى يعلمنا أن نقول : {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}
ومع كل دعاء ، يقول الله عز وجل : " نعم " ، أي : " قد فعلت " كما سبق الإشارة إليه في الحديث.
ولك أن تتصور ما بهذه الكلمات من رحمات تتنزل على عباد الله؛ ألا يؤاخذك بما تركت فعله نسيانًا أو ما فعلته عن خطإ غير مقصود، وألا يحملك من الآصار ما تحملته الأمم السابقة فيثقل عليك وإن كنت تستطيعه، وأن يعفوَ عنك ما بينك وبينه، ويسترك ويرحمك ويتولى أمرك وينصرك على عدوك وعدوه حتى تتمكن من رفع راية دينك ولا تجد صعوبة في طاعته وتنفيذ أوامره.
فإذا أدركنا كل ذلك علمنا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". رواه البخاري ومسلم.
ولعل السر في إبهام متعلق الكفاية أن تدل على العموم، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في تحديد ما تكفيه هاتان الآيتان من أمر الإنسان؛ من قائل تكفيه الشيطان ووساوسه، ومن قائل كفتاه ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، أو كفتاه عن قيام الليل أو عن قراءة القرآن، لكن المتأمل في معنى الآيتين يجد أنها تكفياه كل هذا !
تكفيك وساوس الشيطان الذي يلقي في قلبك الشك، ويزين لك ترك الطاعات وفعل المحرمات؛ فمتى قوي إيمانك بحكمة الله وعدله ورحمته في أمره ونهيه أقبلت عليه وأعرضت عن كل ما يُخالفه.
وتكفيك الهموم؛ فمتى أسلمت واستسلمت لأمر الله علمت أنه لن يُضيعك وأنه مفرج عنكَ إن عاجلا أو آجلا، فلئن فاز أهل الباطل بعاجلة الدنيا فللمتقين البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قال الله تعالى:{ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}[ سورة يونس : 62- 64]
وتكفيك العجز والكسل فمتى علمت بأن الله كلفك بأمر فقد خلق فيك القدرة على فعله فعزمت وتوكلت واستعنت به على الإتيان به.
وتكفيك هموم ذنوبك وآثامك؛ فأنت في كل ليلة تستغفر الله وتتذكر العودة إليه يوم الحساب وتطلب عفوه ومغفرته ورحمته.
{غفرانك ربنا وإليك المصير}
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}
تمت بحمد الله، فما كان فيها من حق فمن الله سبحانه، وما كان فيها من خطإ فمني ومن الشيطان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
_______________________________

* أصل هذه الرسالة كانت ضمن واجبات مقرر تفسير سورة البقرة من برنامج إعداد المفسر، كتبتها بتاريخ 11 محرم 1439 هـ، الموافق 1 أكتوبر 2017 م، وأعدت تحريرها والإضافة عليها يوم الخميس 7 جمادى الأولى 1444هـ، الموافق 1 ديسمبر 2022م.

التعليقات ()

أشهر المقالات
يبدو أن هذه المقالات ستعجبك

الآن يا عمر ... وق...

الآن يا عمر ... وقفات في سيرة عمر بن...

فقيه المدينة سعيد ...

فقيه المدينة سعيد بن المسيِّب...

عبادُ الله المخبتو...

عبادُ الله المخبتون الإخبات عمل...

تأملات في قول الله...

تأملات في قول الله تعالى:{بل نقذف...

بصائر في الرقية وع...

بصائر في الرقية وعلاج السحر والعين ...

رسالة في تفسير قول...

رسالة في تفسير قوله تعالى: {وإنْ مِنْ...